الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة التقرير الثاني عن مجالس الحمامات: راهن الاعلام وموت المثقّف في زمن السرديات الأصوليّة

نشر في  28 جويلية 2017  (18:42)

بقلم حاتم التليلي

شهد مهرجان الحمامات الدولي في دورته الثالثة والخمسين، مساء يوم السابع والعشرين من شهر جويلية لهذه السنة، اللقاء الثاني من مجالسه المعنيّة بتفكيك السؤال المتعلّق براهن الهويّة في ضوء مساءلة المستقبل ومحاولة استنطاقه، وقد ترجمت سلفا منذ اللقاء الأوّل في سؤال "إلى أين نحن ذاهبون؟". هذا اللقاء أثّثته نخبة من الجامعيين والإعلاميين مثل رضا الكافي ومنصور مهنّي وفرج شوشان والمصري حسن حمّاد.

ذهب الأستاذ نور الدين كريديس، بصفته يدير هذا المجلس ورئيسه إلى ربط اشكالية اللقاء بما تمّ طرحه في اللقاء الأوّل الذي انتظم يوم عشرين جويلية الفارط، متسلّحا في ذلك بمرجعيات فلسفيّة مختلفة وأجهزة مفهوميّة حاولت نحت المشترك بين اللقاءين، ليدلي فيما بعد بمتون الاشكالية التي سيتمّ تناولها من قبل المشاركين والقائمة أساسا على الدور الاعلاميّ في التواصل وتأثيره على مجرى الهويّة وكيفيّات تشغيلها بطرائق متعدّدة ومختلفة، وما إذا كان إعلامنا اليوم مرشّحا لنقضه من عدمه.

كانت الكلمة الأولى للأستاذ "فرج شوشان" حيث بعد أن أفصح عن تجربته القديمة مع مهرجان الحمامات الدولي سواء من حيث تسيير شؤون المركز الدولي هناك أو التعريف بأنشطته اعلاميا ليلفت الانتباه إلى أنّه كانت ثمّة في تلك التجربة حوالي مائة وخمسين ندوة علميّة، عبّر عن نقد لاذع وجّهه للحداثيين أنفسهم بصفتهم في نظره يعملون على تقويض الحداثة نفسها.

وفي معرض حديثه عن الرّاهن الاعلاميّ ودوره في تأبيد محنتنا اليوم التجأ إلى رفد سيرته الاعلامية بما هي تجربة من خلالها أراد تسليط الضوء على جملة الاشكاليات التي يعانيها هذا القطاع فلم تساهم في غير الانحطاط التي تمرّ به مجتمعاتها اليوم.

في هذا الاطار قدّم الأستاذ "فرج شوشان"، بنبرة غضبيّة، جملة من الشهادات الحيّة، فكشف عن جملة من الحقائق من بينها كيف تمّ رفض جملة من المقترحات الجادّة على غرار السيناريو الذي اشتغل عليه وتناول من خلاله سيرة العلامة "ابن خلدون" فووجه بالرفض، وتغييب الأعمال المسرحيّة التلفزيّة والاذاعية. ولعلّ من أهمّ الطرائف التي ذكرها مهزلة رثاء جملة من الأكاديميين بشكل بالغ السذاجة والتفاهة كما كان الشأن مع "توفيق بكار" وغيره، والحال أنّه ثمّة من له حوارات معمّقة ومهمّة تمّ تغييبه ليدلي بشهادات أعمق حول تجاربهم.

لقد أعطى هذا القحط الاعلاميّ في نظر "فرج شوشان" مشروعيّة تفشّي الجهل وانتشاره إلى حدّ سيطرت فيه خيام الأصوليات، بينما ظلّ الحداثيون في نظره يحاولون بشكل عشوائي بناء المستقبل بشكل عشوائيّ وعبر سياسات المشي إلى الخلف، وكحلول اجرائيّة ذهب إلى التركيز على جملة من النقاط تمثّلت في ضرورة البحث عن مسالك الابداع وتكوين النخبة التي جفّفتها وسائل الاعلام من خلال مناطق نفوذ البعض أو من خلال اشكاليات التسيير غير المدروسة والتي من شأنها تغييب أي مقاصد للجانب الاعلامي بصفته صار الغاية ولم يعد وسيطا.

أمّا الكلمة الثانية فقد كانت للأستاذ "رضا الكافي" الذي أعاد تشغيل سؤال الهويّة ليدلي فيما بعد أنّ علّتنا تعود إلى وعينا المرضيّ بها لا وعينا التجاوزي القائم على النقد والتجاوز، وفي معرض بحثه عن جملة الأسباب التي حدّدت هشاشة راهننا الحالي ذهب "الكافي" إلى نفي أن يكون المستعمر الذي ترك من وراء كوارثه شعوبا متخلفة المسؤول على ذلك ولا حتى فقط الدكتاتوريات فحسب، بل ثمّة أيضا في نظره مسؤوليّة يجب أن تلقي بالادانة إلى الجيل الذي اتكّل على حالة ما بعد الاستقلال دون أن يحاول استشراف المستقبل أو محاورته.

في هذا الصدد وجّه "رضا الكافي" نقدا لاذعا لبعض الاعلاميين والأكاديميين من الذين نراهم اليوم يحنّون إلى الاستعمار أو الاستبداد، وعلى غرارهم البرلمانيون الذين جعلوا من مجلس الشعب "حظيرة" لتطارح الأفكار الأصولية من حيث تبنيها من تقويضها ما جعل من راهنه أشبه بمعارك الرعاة، لينته إلى ضرورة الحسم الجدّي والقاطع والنهائي في عدّة خيارات حتى يتسنى لنا الدخول في حقول المغامرة والبحث والتقدّم.

أحيلت الكلمة الثالثة للأستاذ "منصور مهنّي"، الذي لم يتورّع بدوره في توجيه أصابع الاتهام إلى عدّة مؤسسات اعلاميّة كانت قد ساهمت بشكل أو بآخر في موت المثقّف، وذلك من خلال أمثلة عديدة أدلى بها عن الاذاعة الوطنية وكيف قوّضت جملة من التجارب المهمّة نتيجة عدم ايمانها باستمراريّة التجربة الحقّ.

بالاضافة إلى ذلك وأمام تفشّي ظاهرة موت المثقّف على يد الاعلاميّ تحوّل السؤال من ضرورة البحث عن المستقبل بما يتطلبه ذلك من كتابة جماعيّة وتفكير جماعيّ إلى السؤال من جديد عن الهويّة، وكأنّ محنته ستظلّ رهينة سلوك "دون كيشوتيّ" حيث لا ثمّة غير النزاع والمغالطات المفهوميّة.

اختتم المصريّ "حسن حمّاد" هذا اللقاء الثاني من مجالس الحمامات، ليكشف منذ أول مداخلته عن أنّ السؤال حول "من نحن وإلى أين" سؤال يعبّر عن الافلاس إذ أنّ الهويّة في نظره شكل من اشكال التحقّق والحضور والفعل والممارسة ووجود في العالم وليست فحسب معرفة الذات أو الماهيّة.

لقد تمّ تشغيل سؤال الهويّة في نظر "حسن حمّاد"، بشكل أعطاها غير القليل من مشروعيّة منذ الفراغ الذي تركه المعكسر الاشتراكي للاتحاد السوفياتي، ومنذ هزيمة 1967 واعتلاء السادات إلى السلطة بشكل سلطويّ وفردانيّ ثم أسلمته للمؤسسات وتقاطعه مع شيوخ الاسلام، إذ أنّ المجتمع – خاصّة المصري- أصبح ينظر إلى الهزيمة بصفتها نتيجة منطقية بعد ابتعاده عن الربّ، لذلك لم يتورّع السادات في في اخراج الاسلاميين من السجون ولسوء حظّه أنّهم هم من قتلوه. مع حسني مبارك كان الأمر ينحو إلى نفس المربّع بعد أن تقاطع مع تلك الأصوليات وحتّى أن سقوطه كان بدافع لحظة ثوريّة من قبل أبناء الشعب المصري الباحثين عن الحرية إلا أن الاسلاميين أوّل من استثمر ذلك. لذلك فإنّ سؤال الهويّة هنا كان كثيرا مرتبطا بتواجد الآخر الاسلاميّ.

ينظر المسلم في نظر "حمّاد" إلى مسألة وجوده في العالم من زاوية يقينيّة ومطلقة تدحض كلّ ما له علاقة بالسؤال، حتّى أنّه بدلا عن الكوجيطو الديكارتي "أنا أفكّر/أنا موجود" صار له الكوجيطو اليقينيّ المناقض للعقل "أنا مسلم/أنا موجود".

في هذا الاطار وجّه الأستاذ "حسن حمّاد" نقده إلى كافّة الأصوليات الاسلاميّة في مصر كمؤسسة الأزهر وتناحر الرجعيات العربية من سنّة وشيعة سواء كانوا في جبهات الأعداء أو حتى في جبهات الأصدقاء (الوهابية السعودية/ حزب الله/ التقاطع السعودي والمصري الحالي/ تركيا). ومثلما عبّر عن سخطه تجاه السرديات الصحراوية القائمة على ثقافة الموت عبّر أيضا عن اعجابه بالنموذج التونسيّ بما هو نموذج رغم نقائصه ظلّ في كلّ مرّة ينجو من فخاخ تلك السرديات التكفيريّة.

 أثار هذا اللقاء نقاشا أعمق بعد اصرار العديد من الحضور على النقاش وأخذ الكلمة، ما دفع بجملة الأسئلة المطروحة سلفا تدخل منعطفا جديدا بمجرّد أشكلتها من قبل البعض الذين دفعوا إلى ضرورة التخلّي عن حالة تشخيص واقعنا لأنّنا صرنا على وعي براهنه المرضيّ، وبدل ذلك ضرورة تشغيل سؤال "ما الفعل؟" وماذا علينا أن نفعل الآن؟ وأيّة حلول ناجعة وأقرب حتّى يتسنّى الخروج من متاهة كهذه؟